لا ترحموا جيوب المخالفين للحد من فوضى السير والمرور بمدننا
انشر
البوغاز نيوز : بقلم عبد العزيز حيون .
دام مقامي ببولونيا خمس سنوات بالتمام والكمال ،زرت خلالها ،طولا وعرضا ، أزيد من 20 مدينة مليونية ،ولم أشاهد طيلة هذه المدة إلا حادثتين ،الواحدة وسط العاصمة وارسو والثانية على الطريق السيار في اتجاه مدينة كاتوفيتشي ،التي احتضنت مؤتمر الأمم المتحدة للمناخ “كوب 24” في دجنبر من سنة 2018 .
في الحقيقة شدني هذا المعطى ودلالاته ، والذي حقيقة لم نعهده في المغرب ،وحاولت البحث عن سبب شبه انعدام حوادث السير وسلاسة حركة المرور وإدراك السبب بالرغم من كثرة السيارات ووسائل النقل كما هو الشأن في باقي المدن الكبيرة التي عادة ما تكون فيها حركة السير مضطربة .
جرني فضولي الصحافي الى استفسار صديق بولوني يدعى “دانييل” ،يملك سيارة أجرة وهو موظف أمن سابق ، عن سبب “شبه انعدام” حوادث السير داخل وخارج المدن البولونية لأعرف سر هذا التميز والنجاح الذي حققته البلاد للحد من حوادث الطرقات و تجنب كلفتها الاقتصادية الباهظة والاستنزاف المالي والبشري الذي لم تنفع معه كل الحلول التحسيسية والزجرية في بلدان أخرى .
وإذا كانت بولونيا ، التي تعد صلة الوصل اقتصاديا بين أوروبا الغربية وأوروبا الشرقية ، قد حققت جزء كبيرا من استراتيجيتها في مجال الجولان والسير ،فإننا لازلنا ،للأسف ،نجر بعض خيبات الأمل ويستعصي علينا أمر مواجهة كارثة يطلق عليها الكثيرون “إرهاب الطرق” ،رغم مقارباتنا المختلفة والمتعددة التشريعية والتحسيسية والتربوية وسعينا المستمر لتحليل الظاهرة المستعصية .
وبكل صراحة ،لا يقع اللوم على مؤسسات الدولة المعنية رغم أن مسؤولياتها قائمة بحكم القانون ورغم أن مؤسسات البلاد سخرت للحد من الظاهرة أموالا طائلة ، لم نحقق على أرض الواقع إلا النزر القليل مما كنا نطمح إليه لتقليص حوادث السير .
ولازلنا نشهد جميعا على تزايد أعداد حوادث السير التي تتسبب في وقع جرحى وقتلى ،وعلى توسع حجم الفوضى الطرقية ،وقد ازداد الطينة بلة مع تكاثر أعداد الدراجات النارية والدراجات الكهربائية (التروتينيت) التي لا يحترم أصحابها في الغالب القوانين ذات الصلة بل هناك الكثير من أصحابها من يتحدى التشريعات ذات الصلة دون ان تلقى من يردعها ويعاقبها بحزم وهي تخاطر بأرواح الناس .
كما لا يمكن أن ننكر أن المؤسسات المعنية بحركة السير والمرور والجولان قامت بجهود مهمة عبر تشوير الأماكن الحساسة ،أفقيا وعموديا ، ووضع إشارات مثبتة وأضواء المرور وتطبيق التدابير الوقائية واعتماد التكنولوجيات المتقدمة في السلامة المرورية مع التطلع الى رصد المخالفات آليًا باستخدام تقنيات متقدمة مثل “الواي ماكس” لتقليل الاعتماد على التدخل البشري، إلا أن النتائج تبقى غير مرضية ولم تحد من هول هذه الكارثة التي تزداد مؤشراتها وأرقامها المفزعة اتساعا وتضخما ، مع اهدار المال العام في استراتيجيات لم تنفع مضامينها ومراميها كثيرا ولم تشكل البديل الأمثل للحد من “إرهاب الطرقات “.
وبالتالي ،يحق لنا أن نتساءل إن كان فشل كل المبادرات يعود الى تهاون مستعملي الطرقات وعدم احترامهم لقانون السير وشيوع السلوكات العدوانية وكثرة السائقين المجانين ؟ ،أم الى عدم كفاية الاجراءات المتخذة وقلة تأثيرها على واقع مرير بعوامله المتعددة والمتشابكة والمعقدة ونتائجه الوخيمة ..؟ ،أم الى عدم استخلاصنا العبر من التراكمات والدراسات والممارسات السلبية التي تخدش مدننا وتعيق مسار التنمية بها .
أجابني صديقي البولوني ،كرجل أمن سابق وكمالك سيارة الأجرة ،أنه للخروج من هذا المأزق وهذا الواقع الحرج على المسؤولين فرض عقوبات رادعة على المخالفين وذعائر وغرامات باهظة يتساوى فيها الجميع مع عدم التسامح مع المخالفين مهما “علا شأنهم “ومهما كان منصبهم ،وقد يصل الأمر الى العقوبة الحبسية التي قد تبلغ مدتها خمس سنوات حسب التكيف القانوني لنوعية المخالفة .
وقررت الحكومة البولونية استثمار مداخيل الغرامات المرورية ومخالفات السير في بناء المدارس ودور العجزة والمسنين والأطفال اليتامى ،كما تستثمر جزء منها في وضع مراكز للترفيه والراحة في الطرقات الوطنية والطرق السيارة .
وأخبرني صديقي البولوني أنه قبل أن تتخذ الدولة قرارها الصارم كانت الفوضى تعم الطرقات والحوادث التي تقع بمعدلات مرتفعة في كل الطرقات والأزقة وعلى المسالك الطرقية المصنفة وغير المصنفة ،ولم تنفع مع هذه الفوضى لا برامج التحسيس والتوعية والتنبيه و لا الاستراتيجيات الدائمة والمناسباتية ولا خطابات الوعيد والتهديد ولا الغرامات التي كانت قيمتها بسيطة وفي متناول المخالفين حتى مع حالة العود .
فقررت الحكومة ،حسب صديقي البولوني ، دون إنذار مسبق ، اعتماد ذعائر ذات قيمة مالية عالية تفوق أجور المخالفين في أحيان كثيرة وترتفع قيمتها دون توقف ، إذا لم يؤد المعني القيمة الزجرية للمخالفة في الوقت المضبوط والمحدد سلفا.
وأكد لي صديقي أن الكل يسارع لأداء قيمة المخالفات في الأجل المحدد قبل أن تتضاعف قيمتها في غضون أسبوع ،ويتوصل كل المخالفين بالإشعارات والتنبيهات عبر البريد وعبر الرسائل الصوتية والمكتوبة لألا يتذرع أحد بعدم توصله بالإشعار ولضمان الانضباط للقرار الرسمي .
وارتباطا بالموضوع ،قامت سلطات البلاد أولا بضبط عناوين وهواتف كل مواطني البلد ،وحددت لذلك فترة زمنية لم تتعد ثلاثة أشهر ،وطالبت المواطنين بالتصريح المباشر في أي مؤسسة تابعة للدولة ليس بالضرورة تابعة لوزارة الداخلية والأمن الوطني بما في ذلك التمثيليات الدبلوماسية ،وفي حال عدم التزام المواطنين بالتصريح يبتدأ عداد الذعائر والغرامات عن كل تأخر غير مبرر مع إمكانية استخلاص القيمة المالية من المصدر .
وتبقى تجربة بولونيا مفيدة بكل تفاصيلها وتراكماتها ،قد تساهم في محو المعايب أملا ورغبة في الهروب من مرارة الفشل وتفادي الأخطاء واكتساب رؤى أخرى ،مع الإقرار بصعوبة مواجهة هذا التحدي الذي قامت الدولة بالكثير لمواجهته عبر مختلف المقاربات وأنفقت لذلك أموالا طائلة مقابل انجازات محدودة يتحمل قسط مسؤوليتها الكل .